الجمعة، 8 مارس 2013

النظرية و التجريب



   تقديم :

  إذا كانت الطبيعة بمختلف ظواهرها تشكل موضوعا للعلم ، فإن العلم في حد ذاته ، من حيث مناهجه و نتائجه و تحولاته ، شكل موضوعا للفلسفة ، حيث  تخصص  فيه فرع من فروعها يسمى * الإبستيمولوجيا * و الذي اهتم بالدراسة النقدية للمعرفة عموما و العلوم خاصة ، و من بين ما اهتم به في دراسته للعلوم
التجريبية  هو مفهوم * النظرية و التجريب * و ما يرتبط به من إشكالات الواقع و العقل و المنهج و المفاهيم . و هي قضايا تطرق إليها الفلاسفة و تفرقوا إلى مذهبين إزاء الإشكال  الرئيسي المرتبط  بمصدر المعرفة ، ماهو مصدر المعرفة هل العقل أم التجربة ؟ حيث تزعم "رونيه ديكارت" المذهب العقلاني الذي انتصر للعقل ، و تزعم  "فرانسيس بيكون"  المذهب التجريبي المؤيد للتجربة. و تطور هذا النقاش في القرن التاسع عشر  مع انفصال العلوم عن الفلسفة بموضوعاتها و مناهجها، حيث ظهرت نزعة اختبارية ترجح أساس المعرفة العلمية الى التجربة و المنهج التجريبي ، لكن  سرعان ما ستصير متجاوزة بفعل تحولات أفضت إليها الاكتشافات الجديدة  . فما هي التجربة و ما علاقتها بالنظرية ؟  و هل التجربة الحسية المباشرة هي مصدر النظرية العلمية أم أن مصدرها  هو التجريب العلمي الممنهج ؟ و الى أي حد استطاع التجريب في استقلال عن العقل اقامة نظريات علمية ؟ و ما امكانية اقامة عقلانية  علمية ؟ وما معايير تحقق عملية  النظريات العلمية ؟

                  I.      التجربة و التجريب:

1- التجربة :  يمارس الناس جميعا التجربة خلال حياتهم اليومية، بفعل احتكاكهم المباشر بالواقع عن طريق الحواس، إذ يتوصلون عادة إلى أفكار تدخل في نطاق الحس المشترك و التمثلات العامية. و تتسم هذه الأفكار بالتلقائية و الذاتية و الخضوع للأحكام المسبقة و المتسرعة، إنها التقاط لما يظهر للعيان في الملاحظة المباشرة و الساذجة . فلا يمكن إدخال هذه التجربة في مجال العلم، لأن نشأة العلوم كان بإبعاد  هذا النوع من التجربة و تاسيس ممارسة منظمة و دقيقة تتجاوز الطابع المباشر و السطحي و الذاتي للتجربة العادية، بالاعتماد على التجريب .
2- التجريب : ارتبط ظهور التجريب كممارسة علمية بتخصص كل علم بموضوع محدد و منهج خاص  به ، حيث تأسست العلوم على قواعد و مبادىء منظمة تقود إلى نتائج مضبوطة .
فالطبيعة تحكمها قوانين لا تظهر بشكل تلقائي و مباشر للإنسان الا اذا اعتمد منهجا دقيقا  و منظما، و اشتغل بطريقة مخبرية تمكن من عزل الظاهرة المدروسة و فرزها عن العوامل المتشابكة حولها و التي تعوق معرفة قوانين  الظاهرة  بشكل واضح.
      لقد ظهر المنهج التجريبي في صيغته الكلاسيكية مع العالم الفرنسي * كلود برنار* ( 1813-1878) الذي استفاد من التراكم العلمي و المنهجي الذي خلفه غاليلي و نيوتن و بيكون و ستوارت ميل. حيث وضع * كلود برنار* في كتابه ْالمدخل لدراسة الطب التجريبي ْ 1865. قواعد المنهج التجريبي في خطوات أربعة هي : الملاحظة و التجربة و الفرضية و القانون.
أ‌- الملاحظة : هي أول خطوة منهجية في عمل العالم، تختلف عن الملاحظة العادية لكونها لا تعتمد على العين المجردة إلا في حدود ضيقة جدا، و تكون في أغلب الأحيان مجهزة بآلات و أدوات علمية، يقول ك. برنار : < لكي تكون معاينة الظاهرة معاينة سليمة يستخدم الملاحظ كل الأدوات  التي من شأنها جعل ملاحظته للظاهرة ملاحظة أكثر شمولية > و يشترط في الملاحظة أن تكون موضوعية مرتبطة بالظاهرة المدروسة بعيدا عن رغبات و ميولات الملاحظ الذي يجب أن يكون كآلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة حيث يجب أن يلاحظ دون أي فكرة مسبقة . تعد الملاحظة لحظة إصغاء موضوعية و محايدة ينتقل بعدها العالم إلى وضع الفرضيات، فما هي الفرضية ؟ و ما موقعها في المنهج التجريبي ؟
ب‌-   الفرضية : هي فكرة مؤقتة يقترحها العالم لتفسير ظاهرة معينة، و تشكل استدلالا عقليا ينطلق من الملاحظة و يقود إلى التجربة، فإذا أكدت التجربة صحة الفرضية أصبحت قانونا و إذا تبين خطأها استبدلت بفرضية أخرى، يشترط في الفرضية أن تكون قابلة للتحقق التجريبي و نابعة من الظواهر المدروسة و لا تتناقض مع ذاتها.
ت‌-   التجريب: هو الخطوة الثالثة من خطوات المنهج التجريبي، يقوم فيها العالم بالتدخل في الظاهرة المدروسة، أو يصطنعها في المختبر بتوفير شروطها الأساسية، و عزلها عن العوامل و المتغيرات الأخرى، من أجل تحديد طبيعة العلاقات بين الظواهر المتدخلة في إنتاج الظاهرة المدروسة. ولإضفاء طابع الحتمية و الضرورة على نتائج التجربة، يشترط فيها أن تكون قابلة للتكرار كلما توفرت نفس الشروط  المخبرية، و يتحقق فيها مفهوم العزل كي يتم التمييز بين عوامل الظاهرة المدروسة و غيرها، و إمكانية التحكم في الشروط التي تحدثها و إدخال شروط جديدة، كما ينبغي أن تكون نتائج التجربة قابلة للتعميم على ظواهر من نفس النوع و تنتج في نفس الظروف.
د- القانون: هو – العلاقة الثابتة بين ظاهرتين أو أكتر – إذ يكون هدف العالم من الملاحظة و الفرضية و التجربة ، هو معرفة تلك العلاقة الثابتة ، و تحديد الشروط الموضوعية القائمة بين ظاهرتين أو أكثر.  و المتضافرة في إنتاج الظاهرة المدروسة ، حيث متى توفرت نفس الشروط نتجت عنها تلك الظاهرة، مثل تبخر الماء في حرارة مائة درجة ، فالتبخر كظاهرة طبيعية يمكن أن نحدثه في المختبر متى وفرنا شروطه الثالية : الماء+ حرارة مائة درجة. إذ يكون القانون حتميا معبر عنه في صيغ فيزيائية  مثل : H²O التي نعبر عن الماء.

 IIالعقلانية العلمية:

          لقد أفضت العلوم المعاصرة في القرن العشرين إلى اكتشاف ظواهر و علاقات ميكروسكوبية يصعب تحديدها كأشياء لها خصائصها  المميزة الثابتة نسبيا، و يتعذر تعيينها في الزمان و المكان، و ظهرت نظريات جديدة ( مثل نظرية النسبية لأنشتاين) لا تعتمد التجربة الإمبريقية بمفهومها الكلاسيكي، و لكنها تتوصـــل الى نتائجها عن طريق المعادلات و الخطاطات الرياضية المجردة، فلم تعد التجربة مرجعا لأختبار صدق الفرضيات أو كذبها، و لا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت عبارة عن إنشاءات عقلية حرة.
    و من هذا المنطلق أكد – ألبيرت اينشتاين – 1879  1955  أن الإبداع العقلي هو الأساس النظري للفزياء المعاصرة. فالنظرية هي نسق تتكامل فيه المفاهيم و المبادئ الصادرة عن العقل، و لا يكون للتجربة إلا دورا ثانويا يكمن في مطابقة القضايا الناتجة عن النظرية، و توجيه العالم إلى اختيار بعض المفاهيم الرياضية التي يوظفها، في حين أن العقل هو الذي يمنح النسق بنيته، على نحو رياضي خالص. إذ يقول اينشتاين : - ان المبدأ الخلاق في العالم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي - 
لقد اقتضت ضرورة التطورات الطارئة في العلوم المعاصرة إعطاء العقل  و التجريد الرياضي مكانة متميزة في مواجهة النزعة الإختبارية الكلاسيكية ، مع ذلك سيضل التجريب حاضرا بقوة في مناهج العلوم، مما فرض ضرورة إيجاد إطار نظري يحدد العلاقة بين التجربة /الواقع و  النظرية / العقل. و في هذا السياق جاء  الإبستمولوجي الفرنسي * غاستون باشلار*   بمفهوم العقلانية المطبقة ، و هي عقلانية يتم فيها تركيب دقيق بين العقل و الواقع، فالتجربة كما تصورتها المذاهب التجريبية كمصدر وحيد للبناء النظري للعلم أصبحت متجاوزة، و العقل كما تصورته العقلانية الديكارتية كمستودع للأفكار قبلية، معزولا عن الواقع بذاتة صار طرحا  متجاوزا أيضا. لأن العقلانية العلمية هي عقلانية مطبقة لا ينفصل فيها العمل التجريبي عن النشاط العقلي، حيث يتحدد العقل العارف مشروطا بوضوح معرفته لكي تكون النظرية العلمية نتاج حوار دقيق ووثيق بين العقل و الواقع.

 III- معايير علمية النظريات العلمية:

    أمام تعدد النظريات بتعدد حقول المعرفة و تقاربها أو تقاطعها، و أمام انهيار النموذج الكلاسيكي للمنهج العلمي، طرح السؤال، ما معايير علمية النظريات العلمية ؟  
   1-) معايير التناسق المنطقي:
            يرى * دوهيم duhem* (1861-1916)  أن النظرية الفزيائية هي " نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ" إذ أن تناسب النظرية مع التحليل  الرياضي عموما هو احد المعايير التي تؤكد عمليتها ، و لذلك يشترط فيها أن تكون الفرضيات و التعريفات التي تنطلق منها محددة بشكل واضح، و أن تخضع لتناسق منطقي باحترام مبدأ عدم التناقض سواء بين حدود كل فرضية، أو بين الفرضيات المعتمدة في النظرية ككل، كما يشترط في النظرية معيار التناسق بين مختلف المبادئ و الفرضيات التي تقوم عليها حسب قواعد التحليل الرياضي، و تتخذ التجربة في الأخير لكي تقارن مع القضايا المستنبط رياضيا ، للتأكد من مدى صحتها أو خطأها.
       2-) معيار تعدد الاختبارات:
            إن فاعلية النشاط العلمي هي فاعلية دينامية  و شاملة ، تتجدد معها النظريات و المفاهيم و تتغير معها نظرة الإنسان إلى العقل و الواقع، و لما كان استمرار العلم مرتبط بتجدد تصوراته و نتائجه، يرى " بيير تويليي" أنه وجب على العالم لكي يحقق عملية نظريته أن يخضعها باستمرار إلى فرضيات إضافية و أن يكرر اختباراته لكي تحافظ من جهة على تماسكها المنطقي الداخلي ، و كي تخرج أيضا من عزلتها التجريبية بانفتاحها على فروض نظرية جديدة. فتعدد الإختبارات هو معيار  عملية النظرية و علامة قوتها .
        3-) معيار القابلية للتكذيب/ التزييف:
            قدم " كارل بوبر " تصورا يتجاوز مفهوم الحتمية الذي عرفته الفيزياء الكلاسيكية ، مؤكدا أن معيار عملية النظريات العلمية لا يتحدد فيما تقدمه من يقينيات و حتميات بقدر ما يتحقق قي قابلية تلك النظرية للتفنيد و التكذيب، و أن تضل مفتوحة على إمكانية الإختبار مجددا. فالطابع التركيبي و الشامل للنظرية الذي يتعدى حدود التجربة و لا يكتفي بنتائجها، يجعل من المتعذر التحقق من صدق أو كذب النظرية بواسطة التجربة، لذلك فمعيار الحكم على النظرية بأنها علمية، هو قابلية منطوقها و بنائها النظري للتفنيد أو التكذيب . فعلى النظرية أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق